توثيق التراث التعددي لجزيرة جربة من خلال التصوير
صفوان التليلي
المسجد الجديد ببني معقل مبني بجدران سميكة كالحصن
لئن إشتهرت جزيرة جربة التونسية في العالم بلقب جزيرة الاحلام وجزيرة اللوتس إلا أنها تستحق بجدارة بأن تسمى أيضا جزيرة المساجد. فما أن تخطو خطوتين على أرضها إلا ويلوح لك مسجد يناديك من بعيد ببياضه الناصع وبصوت أذان الصلاة الجميل
ولئن تعددت فيها المذاهب وجلي ذلك من أشكال المئاذن فيها، بين الحنبلي والمالكي إلا أن غالبيتها وأقدمها مساجد الفرقة الاباضية بقسميها الوهبية والمستاوية /النكارية فيها
دعامات الجامع الجديد ببني معقل ظاهرة على الواجهات الخارجية للجدران
الجدران البيضاء المتلألئة لمسجد فضلون في ميدون والتي تم ترميمه مؤخراً
مسجد إباضي مطلي باللون الأبيض ببدوين بجربة
مئذنة مسجد أولاد هلال في ميدون
من اليم يأتي الغزاة هكذا يبدو أن إباضية جزيرة جربة ومن خلال نظام الحلقة /العزابة الذين أنشئوه فيها فهموا الدرس وهيئوا له السبيل بحكمة ودراية محبكة، فاحاطوا جزيرتهم على كامل سواحلها بمساجد /مراقب هي أشبه بالقلاع /الحصون، تكون معسكرهم وملاذا امنا لهم غرة القتال وحين وطيس الحروب القاتلة والمتكررة عبر الازمنة. فكونت هذه المساجد خطا دفاعيا اولا، منه ترسل إشارات اليقظة والتأهب عبر قرع الطبول وإشعال النار، لبقية المساجد، فتراها مساجد ضخمة، متينة الجدران، برفادات وسقاطات لسكب الماء والزيت الساخن وفتحات قتالية وأسوارا للحماية فيعسر إختراقها، وفيها تختبأ النساء والأطفال بمأمن
وهي كثيرة العدد نذكر منها سيدي ياتي بڨلالة وسيدي جمور وسيدي سالم وسيدي زايد والڨمير والحجر والحارة وورسيغن. وأما عن الخط الدفاعي الثاني فقد جعل الجرابة من الجوادي الملتوية والطويلة والمتشابهة فخاخا للاعداء للتيهان والضياع فيها خاصة وهم يسبرون أغوراها لأول مرة، فهي أشبه بلعبة لا مخرج منها فيسهل الاطاحة بهم وغدرهم، ومن الجواد جعل سكان جربة الطوابي والسواتر الترابية خطا دفاعيا ثالثا لهم، ليحتموا خلفها ويحموا منازلهم فجعلوها مرتفعة وزرعوا فيها الصبار الشائك ليصعب إختراقها، وجعلوا من مساكنهم التي تعرف بالاحواش قلاعا مربعة مصغرة بجدران سميكة وفتحات قتالية خطا دفاعيا رابعا، ناهيك عن الخط الدفاعي الخامس المرتبط بالتحكم في الماء العذب الصالح للشراب، فكم إنتصروا على غزاتهم وأهلكوهم عطشا
والفريد في مساجد /جوامع جربة أنها مبنية حسب مخطط معماري مدروس فكلها تمثل خطا واحدا متقاطعا كأنها شبكة عنكبوت لا تجد ثغرة تفصل أحدها عن الاخر. متلاحمة ومتصلة ببعضها متأهبة دوما للخطر
والفريد فيها أيضا أدوارها المختلفة المتراوحة بين الدور الدفاعي/ العسكري من خلال المساجد الحصون والتعليمي التدريسي المساجد/ المدارس كجامع ولحي بجعبيرة والبرداوي بالڨرع وبومسور بالحشان والحارة بورسيغين وغيرها من المنارات العلمية التي أنجبت عديد العلماء الا أنها تضطلع بأدوار أخرى إجتماعية مثلا من خلال الدور القضائي الخاص بالمرأة من خلال كوة المظالم ومن خلال إبرام عقود الزواج والتزود بالماء إذ يحيط بكل جامع مجموعة من المواجل لحفظ ماء المطر
العلو المنخفض لمئذنة الجامع الإباضي وفر الحماية من المهاجمين
شكل قبعة القش التقليدية للمرأة الجربية والمئذنة الإباضية يوفران تكافلًا مثاليًا
رجلان بملابس جربية تقليدية يتأملان مسجد الغولة بجربة
بلاط الصلاة الخارجي بمسجد ولحي في جعبيرة جربة
هذه المساجد تمتاز أيضا بتنوع ملامحها المعمارية فتنقسم لمساجد قلاع ومساجد مدارس ومساجد عادية ومصليات عائلية صغيرة تحمل من الأسماء ألقاب العائلات وتكون أحيانا منقورة تحت الصخر كجامع البرداوي وبن مؤمن او محفورة تحت الارض مذكرة إيانا بمعاصر الزيتون كجامع الوطا بسدويكش وسعيد بن صالح بصدغيان ومختفية وسط غابات الزياتين خاصة في فترة إمامة الكتمان لدي إباضية جربة
والمشترك بينها جميعا هو رونقها المعماري وسحرها الجذاب المازج بين البساطة والعفوية، فتقتصر على اللون الأبيض الجيري في الطلاء ما يجعلها في تناسق تام مع المجال الطبيعي مختفية حينا وظاهرة حينا للعين. فلا المنارة فيها تعلو النخيل طولا ولا غرف الاحواش تعلو أشجار الزياتين
هذه الجوامع التي تنعدم فيها مظاهر الترف والزخرفة والزركشة ماعدا بعض نقائش أمازغية متمثلة في أشكال هندسية على غرار زينة القصور ببلدة الدويرات بتطاوين او بعض الحروف العربية التي تجسد كلام الله او أسماء علماء ومحسنين. او بعض أعمدة رخامية وتيجان وقع إعادة إستعمالها في الانشاء جلبت من مواقع أثرية رومانية كميننكس وهاريبيس والتي تطلى غالبا بالجير لتختفي داخل هذا المشهد المحكوم بالبساطة والتواضع وتزين أعلاها قباب جميلة أو كمرات تزيدها بهاءا، إضافة للرفادات التي تعضد الجدران والمحاريب ومدارج الاذان والمنارات التي تعرف من خلال مكانها إلى أي إنقسام داخل الفرقة يتبع الجامع ولأي مشيخة يتبع وما صار فيه من إنتقال، فمدارج الاذان تلوح لك طورا يمينا لدي الاباضية الوهبية وطورا أخرا شمالا لدي المستاوة. ومكان المنارة كذلك يعلمك بأي فرقة هذا الجامع يتبع
كل جامع لا يشبه الاخر هذه ميزة أخرى في مساجد جربة
توثيق صفوان التليلي بالمسح التصويري لمسجد المعاريس بجربة
توثيق صفوان التليلي بالمسح التصويري لمسجد المعاريس بجربة
توثيق صفوان التليلي بالمسح التصويري لمسجد إباضي في جربة
توثيق صفوان التليلي بالمسح التصويري لمسجد إباضي في جربة
إقتفاء أثرها وفهم تاريخها وعناصرها وتقلباتها السياسية لعبة ممتعة بدأت في فك أسرارها منذ زمن من خلال المراجع والخرائط والاصدقاء. فعملت على توثيقها من خلال معارض الصور الفوتوغرافية
ولكن مع اسور واصلت الأمر ولكن بطريقة أكثر إحترافية، بطريقة علمية دقيقة من خلال توثيقها بتقنيات المسح التصويري الفوتوغرامتري بعد أن تحصلت على تكوين في الغرض من فريق اسور
في كل مرة أكتشف وأنتبه لشي جديد فيها ومع تجربتي الجديدة مع اسور شعرت أنني من خلال هذه المغامرة أساهم من ناحيتي في تخليد هذا الارث المعماري الحضاري الهام، فمن خلال التوثيق نحن نضمن بقاء أثرها ونحفظها من عوامل الزمن وعبث الإنسان والطبيعة
فالتوثيق أمثل طريقة لحفظها من الزوال والاندثار والتي تسير حسب ما عاينت أغلب المعالم إليه نظرا لغياب الاهتمام والصيانة الدورية والترميم فغالبيتها مهجور في حالة خراب وتلاشي
ومن خلال هذا التوثيق فإننا نتيح للباحثين المحليين وفي كل العالم الدارسين لها من وثأئق أرشيفية مهمة تساعدهم وتيسر عليهم بحوثهم في أي زمن كان ذلك
توثيق صفوان التليلي بالمسح التصويري لمسجد بن معزوزين في مزراية جربة
توثيق صفوان التليلي بالمسح التصويري لمسجد مورو جعبيرة جربة
صفوان التليلي وجاك ساسون من وفد اسور داخل مسجد سيدي ياتي بقلالة جربة
وهي ما تساعد لاحقا في الترميم حسب المثال الهندسي الأصلي فنتجنب هنا التشوية والخطأ
فالاثر وإن زال خاصة في مناطق تشهد تقلبات وتحولات ولا إستقرارا من شأنه أن يمس من سلامتها، فثمة نسخة رقمية تقنية دائمة منه ستبقى محفوظة ومتاحة للجميع باحثين أو زائرين مستكشفين
فمن خلال هذه التطبيقية الإلكترونية ومن خلال الموقع كوبو كولاكت يمكن حينيا التعرف على المعالم صورة وموقعا جغرافيا من خريطة من خلال الخريطة المتاحة، فتسهل الزيارة على أرض الواقع وإفتراضيا
عرض لصور التراث الثقافي الإباضي واليهودي في األيانس فرانسيز
وفد أسور يزور المعرض في األيانس فرانسيز
شارون هربرت، رئيسة جمعية اسور، تلقي كلمة في معرض صور والتراث الثقافي الإباضي واليهودي في اليانس فرانسيز
من ثمة ولمزيد تثمين هذه الجهود المبذولة إنتهينا الي فكرة ضرورة عرض نماذج من هذه المعالم عبر الصور الفوتوغرافية من خلال معرض واقعي وأخر إفتراضي يعمل عليه الآن الفريق المكلف بالجانب التكنولوجي
صور تريك هذه الجوامع الفريدة من مشاهد كاملة لها او مفصلة تلفت نظرك لتركز على عناصر معمارية محددة. كالمنارات بأشكالها الطريفة المعوجة والرفادات بأحجامها المختلفة ومدارج الاذان والقباب والمحاريب. كما لم يفوتنا أن ننوع في النماذج المختارة من مساجد حصون وأخرى عائلية، فوق الأرض وتحتها
وكذلك إنتبهنا لضرورة إظهار الحسنة منها والتي في حالة خراب وإنهيار لنلفت المتلقي لضرورة التحرك الجماعي والالتفاف حولها أفرادا وجمعيات ومنظمات ومؤسسات مختصة للعناية بها وتثمينها بإدراجها ضمن المسالك السياحية الثقافية وضمن السياحة البديلة او تحويلها لفضاءات أخرى حاضنة ضمانا لصيانتها الدورية كأن تصبح متاحفا ومقرات للجمعيات وغيرها
صور للمسجد الجديد إلى اليسار وكنيس عزرية الى اليمين معروضة جنبًا إلى جنب في المعرض في األيانس فرانسيز
صور للمسجد الجديد إلى اليسار وكنيس عزرية الى اليمين معروضة جنبًا إلى جنب في المعرض في األيانس فرانسيز
صفوان التليلي (يسار) وجولان وزان (يمين) امام الصور المعروضة في المعرض في األيانس فرانسيز
هذا المعرض الذي أخذ من الأسماء ما خلف التنوع! لم يقتصر في فحواه على إبراز الارث المعماري الاباضي فقط، بل تضمن أيضا صورا فوتوغرافية لمعالم ومعابد يهودية داخل جزيرة جربة كالغريبة وبيوت الصلاة المختلفة. وشمل كذلك صورا لكنائس مسيحية، فكان جامعا لمختلف الديانات والاقليات في مكان واحد في زمن واحد، فعكس صورة جربة في مرآة حالها بما تحتويه من فضاء تاريخي يعتد مثالا عالميا للعيش المشترك وقبول الاخر المختلف ودرسا لكل البشرية
ومن خلال هذا المعرض الذي إستهل بعرض فلكلوري موسيقى ممتع لفرقة طبالة سطا جمعة المشهورة بفنانيها ذوي الأصول الأفريقية وأدائهم الجذاب. وفر المعرض فرصة ليتمكن الزائرون والمشاركون من مختلف الاقليات والاديان من فتح أبواب رحبة طيلة أمسية ماتعة من التساؤل والنقاش خاصة بحضور ضيوف اسور المختصين في علوم الاديان والاثار من إثراء التفاعلات وتبادل الاراء حول المشترك والمختلف في الأديان
وهو ما مكنني شخصيا من التعرف عن كثب عن اليهودية مثلا من خلال ما طرحت من أسئلة للشباب اليهود المشاركين في هذا المعرض، وعن المسيحية من خلال الضيوف الأجانب وعن الإسلام في جنوب الصحراء من منفذين من منطقة الساحل يعملون مع اسور في مشروع مرآة في بوركينا فاسو والنيجر ومالي. كما أتاح هذا العرض والفعالية فرصة تذوق العديد من الحلويات التونسية الأصيلة التي نالت إعجاب الحضور
ندى قمودي بملابس نسائية جربية تقليدية، تتأمل الصور التي التقطها صفوان التليلي وبنياهو حداد
بينياهو حداد يشرح لآندي فون، المدير التنفيذي لاسور، وإريك مايرز، عضو مجلس الأمناء لاسور، التراث اليهودي المميز لجزيرة جربة
فرقة الطبول ساتا جمعة تعزف الموسيقى التقليدية في اليانس فرانسيز
بحق مثل هذا المعرض بشموليته تجربة نموذجية أولية رائدة في إثبات وتوكيد وتأصيل قيم إنسانية نبيلة، وبأسلوب مرن، فني وسلس إنطلاقا من تجارب واقعية وتطبيقية نابعة من شباب فاعل ونشط يمثل مجموعات وأقليات مختلفة تهوى بكل محبة وإنفتاح التعرف أكثر على بعضها وربط مزيد العلاقات السلمية بينها. مثلت الجغرافيا الجزرية ونظام العزابة الاباضي تاريخيا دورا هاما في تحقيق ذالك
وما يزيد من نجاح هذه التجربة أن هذا المعرض سيتواصل عرضه بمحطات أخرى في مختلف ولايات الجمهورية التونسية ليعطي مجالا لفئات أخرى من إكتشاف التنوع التي تزخر به البلاد
ومن الطرائف فيه ان يستغرب اليهود الحاضرين من وجود ما يزيد عن 400 مسجد في جزيرة جربة وأن يستغرب مسلمون بدورهم بوجود مصليات يهودية أخرى بخلاف معبد الغريبة المشهور عالميا
كانت التجربة مع اسور، تجربة نوعية، ثرية ومحفزة وملهمة ومعلمة، لقينا فيها من التشجيع والاحاطة والدعم الكثير لاكتساب الخبرات الضرورية لتثمين تراثنا المحلي المادي واللامادي وخاصة المهدد منه. ومثلت جزيرة جربة النموذج الاكمل الحاضن لذلك وخاصة وهي على آخر عتبات تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي الإنساني لدي اليونسكو الفضاء الجامع الفريد للتنوع والعيش بسلام، والفضاء الامثل لإرادة التماسك والتازر والتاخي وهذا ليس بغريب عنها، اذ لها في التاريخ عبر وما زلنا نستلهم منها ونستمسك بما علمتنا
ندى قمودي ترقص على أنغام فرقة الطبول ساتا جمعة في اليانس فرانسيز
داخل كنيس الغريبة أثناء الحج اليهودي السنوي
آندي فون وكارول وإريك مايرز وجاك ساسون داخل كنيس الغريبة